فصل: الشورى في الفتح الأعظم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الشورى في الشريعة الإسلامية دراسة مقارنة بالديمقراطية والنظم القانونية



.الشورى في الفتح الأعظم:

إن فتح مكة يعتبر من أعظم الفتوحات بركة، فقد أعز الله به دينه ورسوله ودخل الناس به في دين الله أفواجاً وأشرق به وجه الأرض ضياءً وابتهاجاً، وقد هيأ الله لذلك أسباباً حيث كان قد تقرر في صلح الحديبية أنه من أراد أن يدخل في عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم دخل ومن أحب أن يدخل في عهد قريش دخل، فدخلت بنو بكر في عهد قريش وعقدهم، ودخلت خزاعة في عقد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وعهده، وكان بين خزاعة وبكر ترة قديمة وعداوة متوارثة ولما كانت الهدنة قد أدخلت القبيلتين في عسكرين متحاربين أراد بنو بكر أن ينتهزوا هذه الفرصة ليصيبوا من خزاعة الثأر القديم فبيت نفر من بني بكر لخزاعة وهم على ماء لهم فأصابوا منهم رجلاً وتناوشوا واقتتلوا وأعانت قريش بني بكر بالسلاح وقاتل معهم أشراف من قريش مستخفين ليلاً حتى حازوا خزاعة إلى الحرم فلما انتهوا إليه قالت بنو بكر لبعض رجالهم إنا قد دخلنا الحرم الهك الهك فقال: كلمة عظيمة لا إله له اليوم يا بني بكر أصيبوا ثأركم فلعمري أنكم تسرقون في الحرم فلا تجدون هذه الفرصة بعد ذلك، وخرج عمرو بن سالم الخزاعي وقدم على الرسول صلى الله عليه وآله وسلم المدينة فوقف عليه وهو واقف في المسجد بين ظهراني أصحابه فقال:
يا رب إني ناشد محمدا ** حلف أبينا وأبيه الأتلدا

قد كنتم ولداً وكنا والداً ** ثمت أسلمنا ولم ننزع يدا

فانصر هداك الله نصراً أبدا ** وادع عباد الله يأتوا مددا

فيهم رسول الله قد تجردا ** أبيض مثل البدر يسمو صعدا

إن سيم خسفاً وجهه تربّدا ** في فيلق كالبحر يجري مزبدا

إن قريشاً أخلفوك الموعدا ** ونقضوا ميثاقك المؤكدا

وجعلوا لي في كداء رصدا ** وزعموا أن لست أدعوا أحدا

وهم أذل وأقل عددا ** هم بيتونا بالوتير هجدا

وقتلونا ركعاً وسجدا

يقول قتلنا وقد أسلمنا. فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «نصرت يا عمرو بن سالم»، وقد أورد أصحاب السير مجيء أبي سفيان إلى المدينة وتجهيز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه وإعداد عدته لغزو قريش وأنه استكتم الناس.
وقد نقل قصة تشاوره صلى الله عليه وآله وسلم في غزوة الفتح مع أصحابه كما ذكر الدكتور محمد عبدالقادر أبو فارس نقلاً عن المصنّف لابن أبي شيبة حيث قال: إنها قد غدرت قريش وبنو بكر بحلفاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم خزاعة وجاء أبو سفيان بعد ذلك ليجدد العقد والعهد والتقى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن الموقف من قريش ليجدد العقد والعهد، واستشار الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن الموقف من قريش وقد نقضوا العهد فقال: عمر بن الخطاب رضي الله عنه يا رسول الله هم رأس الكفر هم الذين زعموا أنك ساحر وأنك كاهن وأنك كاذب وأنك مفتر ولم يدع شيئاً مما كان أهل مكة يقولونه إلا ذكره، وأيم الله لا تذل العرب حتى تذل أهل مكة.
ومما لا شك فيه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم كان ديدنه المشاورة خاصة في الأمور التي لا نص فيها وقد كان الفتح الأعظم لمكة المكرمة صبح يوم الجمعة لعشرين خلت من شهر رمضان سنة ثمان من الهجرة وكان بعد غزوة أحد وقد نزل قول الحق سبحانه وتعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} وقد أعد العدة صلوات الله عليه وأخذ الجيش طريقه بصمت والتقى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس وقد كان في طريقه للهجرة واستبقى النبي صلى الله عليه وآله وسلم عمه العباس معه وأرسل أهله إلى المدينة ولم يخبر الناس صلى الله عليه وآله وسلم بتوجهه إلى مكة إلا بعد أن تجاوز الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حرتي المدينة وفي الطريق أيضاً التقى بأبي سفيان بالقرب من مكة.
أما قصة حاطب بن أبي بلتعة فقد كانت والرسول صلى الله عليه وآله وسلم لا يزال في المدينة والقصة مشهورة فلا حاجة إلى إيرادها هنا ويكفي الإشارة إليها بما يفهم منه أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد أعلم أهل بدر من المهاجرين والأنصار على خطته في الذهاب إلى مكة وما أجمع عليه الرأي من المسير إلى مكة، ولهذا نزل الوحي من السماء ينهى عن خيانة الله ورسوله وابتعث الرسول علياً والمقداد رضي الله عنهما لتفتيش المرأة التي ابتعثها حاطب بن أبي بلتعة إلى قريش برسالة فيها إفشاء لسر النبي صلى الله عليه وآله وسلم وما عزم عليه وأصحابه من غزو مكة عنوة، وقد كان من كرمه صلى الله عليه وآله وسلم أن عفا عن أهل مكة بعد أن أسلم أبو سفيان وهو على مقربة من مكة، وجعل النبي صلى الله عليه وآله وسلم له مزية وهو أن من دخل دار أبي سفيان كان آمن ومن أغلق داره فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن.
ويستفاد من فتح مكة العظيم أمور كثيرة ومنها:
الشورى على ما ذكره الدكتور أبو فارس نقلاً عن المصنّف لابن أبي شيبة وهو أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم استشار أبا بكر وعمر رضي الله عنهما في شأن الموقف وذلك لأنهما كانا وزيريه، ولأن سنة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم هو عدم الانفراد بالقرارات العسكرية المصيرية، بل دأبه أن يستشير أصحابه وأن يستمع إلى أقوالهم وأن يستفيد منها التزاما بقول الله تعالى: {وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}، ومما لا شك فيه أن فتح مكة كان مما وعد الله به رسوله، ويستفاد من هذه الغزوة وهذا الفتح العظيم الأمور التالية:
1- وجوب الاحتفاظ بالأسرار العسكرية خاصة في الأمور الهامة والاستعانة بالكتمان واتخاذ أسلوب الهجوم والمباغتة في الحرب بعد الاستشارة إذا لم يكن العدو معاهداً إلا إذا نقض العهد.
2- استشارة أهل الفضل والصلاح والتخصص والاستقامة والرأي.
3- العفو عند حصول القدرة لما ثبت في القصة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قال لقريش بعد أن دخل الكعبة وهدم الأصنام فخطب الناس وذكر الله وقال: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا: خيراً، أخٌ كريم وابن أخ كريم. قال: «فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته: {لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ} اذهبوا فأنتم الطلقاء».
4- أن من مكنه الله في الأرض بالنصر وجب عليه إقامة التوحيد ونشر الدعوة الإسلامية وإزالة المنكرات لما ثبت أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم حين طاف بالبيت كان يطعن الأصنام بالقوس، ويقول: {جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}، {قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ}.
5- رد الأمانات إلى أهلها وذلك اقتداءً بهديه صلى الله عليه وآله وسلم فقد جلس النبي صلى الله عليه وآله وسلم في المسجد الحرام فقام إليه علي رضي الله عنه وكرم وجهه ومفتاح الكعبة في يده، فقال: يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك. فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أين عثمان بن طلحة، فدعي له فقال له: هاك مفتاحك يا عثمان اليومُ يومُ بر ووفاء.
6- الشكر عند حصول النصر والنعمة فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد أن هدم الأصنام وطهر البيت وطاف به سبعاً ثم اتجه صلى الله عليه وآله وسلم إلى دار أم هانئ بنت أبي طالب وصلى ثمان ركعات في بيتها، قال ابن القيم وكانت ضحى فظنها من ظنها صلاة الضحى وإنما هذه صلاة الفتح، وكان أمراء الإسلام إذا فتحوا حصناً أو بلداً صلوا عقب الفتح هذه الصلاة اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وفي القصة ما يدل على أنها بسبب الفتح شكراً لله عليه فإنها قالت ما رأيته صلاها قبلها ولا بعدها.
7- نصب القضاة والولاة للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن النبي صلى الله عليه وآله وسلم عين في مكة عَتّاب بن أسيد أميراً عند ذهابه إلى حنين.
8- جواز إجراء التفتيش الإداري والعسكري على الرجال والنساء عند الضرورة لدرء الخطر دل على ذلك ما ورد في قصة حاطب بن أبي بلتعة، فإن علياً والمقداد رضي الله عنهما قالا للظعينة لتخرجن الكتاب أو لنكشفنك. قال ابن القيم: وإذا جاز تجريدها لحاجتها إلى ذلك حيث تدعو إليها فتجريدها لمصلحة الإسلام والمسلمين أولى.
9- جواز دخول مكة للحرب المباحة من غير إحرام إلى غير ذلك من الأحكام والحكم التي لو ذهبنا نجمعها من مصادرها ونتقصاها لاحتجنا إلى مجلدات وأسفار.

.الشورى في غزوة حنين وأوطاس:

وهما موضعان بين مكة والطائف وقد سميت الغزوة باسم مكانها كما يقول الإمام ابن القيم، وتسمى غزوة هوازن لأن قبيلة هوازن هم الذين أتوا لقتال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، قال ابن إسحاق: لما سمعت هوازن برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما فتح الله عليه في مكة جمعها مالك بن عوف النصري واجتمع إليه مع هوازن ثقيف كلها ومضر وجشم كلها وسعد بن بكر وناس من بني هلال وهم قليل ولم يشهدها من قيس غيلان إلا هؤلاء ولم يحضرها من هوازن كعب ولا كلاب، وفي جشم دريد بن الصمة شيخ كبير ليس فيه إلا رأيه ومعرفته بالحرب وكان شجاعاً مجرباً، وفي ثقيف سيدان لهم، وفي الأحلاف قارب بن الأسود وفي بني مالك سبيع بن الحارث وأخوه أحمر بن الحارث وجماع أمر الناس إلى مالك بن عوف النصري فلما أجمع السير إلى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم ساق مع الناس نسائهم وأموالهم وأبنائهم، فلما نزل بأوطاس اجتمع إليه الناس وفيهم دريد بن الصمة فلما نزل قال بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل لا حَزْن ضرس ولا سهل دهس ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصبي ويعار الشاء. قالوا: ساق مالك بن عوف مع الناس نساءهم وأموالهم وأبناءهم. قال: أين مالك؟ قيل: هذا مالك. ودعي له قال: يا مالك إنك قد أصبحت رئيس قومك وإن هذا يوم كائن له ما بعده من الأيام، ما لي أسمع رغاء البعير ونهاق الحمير وبكاء الصبي ويعار الشاء. قال: سقت مع الناس أبناءهم ونساءهم وأموالهم. قال: ولم؟ قال: أردت أن أجعل خلف كل رجل أهله وماله ليقاتل عنهم. فقال راعي ضأنٍ: والله وهل يرد المنهزم شيء، إنها إن كانت لك لم ينفعك إلا رجل بسيفه ورمحه، وإن كانت عليك فضحت في أهلك ومالك. ثم قال: ما فعلت كعب وكلاب. قالوا: لم يشهدها أحد منهم. قال: غاب الحد والجد، لو كان يوم علاء ورفعة لم تغبه كعب ولا كلاب ولوددت أنكم فعلتم ما فعلت كعب وكلاب، فمن شهدها منكم؟ قالوا: عمرو بن عامر وعوف بن عامر قال: ذلك الجذعان من عامر لا ينفعان ولا يضران يا مالك إنك لم تصنع بتقديم بيضة هوازن إلى نحور الخيل شيئاً، ارفعهم إلى ممتنع بلادهم وعلياء قومهم ثم ألق الصباة على متون الخيل فإن كانت لك لحق بك من وراءك، وإن كانت عليك ألفاك ذلك وقد أحرزت أهلك ومالك. قال والله لا أفعل، إنك قد كبرت وكبر عقلك لتطيعنني يا معشر هوازن أو لأتكأن على هذا السيف حتى يخرج من ظهري، وكره أن يكون لدريد فيها ذكر ورأي، فقالوا أطعناك. فقال دريد: هذا يوم لم أشهده ولم يفتني:
يا ليتني فيها جذع ** أخب فيها وأضع

أقود وطفاء الزمع ** كأنها شاة صدع

ثم قال مالك للناس: إذا رأيتموهم فاكسروا جفون سيوفكم ثم شدوا شدة رجل واحد، وبعث أعيناً من رجاله فأتوه وقد تفرق أوصالهم. قال: ويلكم ما شأنكم. قالوا: رأينا رجالاً بيضاً على خيول بلق والله ما تماسكنا أن أصابنا ما ترى، فوالله ما رده ذلك عن وجهه إن مضى على ما يريد. وقد حكى أصحاب السير أنه لما سمع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعث إليهم عبدالله بن أبي حدرد الأسلمي وأمره أن يدخل في الناس فيقيم فيهم حتى يعلم علمهم فدخل فيهم وعرف ما أجمعوا عليه من حرب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأتى بالخبر إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فأجمع الرسول صلى الله عليه وآله وسلم على السير وأمر المسلمين أن ينفروا نفرة رجل واحد إلى هوازن، فوافاهم عند وادي حنين وقد جمعوا نحواً من ثلاثين ألف مقاتل من ثقيف وجشم ونضر وقيس بن غيلان ورئيسهم مالك بن عوف وفيهم دريد بن الصمة من عباقرة الحرب.
وكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد أخذ من صفوان بن أمية أدرعاً وسلاحاً فقال صفوان: أغصباً يا محمد؟ فقال: «بل عارية مضمونة حتى نؤديها إليك»، وقد خرج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم من مكة ومعه ألفان من أهلها وعشرة آلاف من أصحابه الذين خرجوا معه، وقد كان المسلمون في بداية المعركة قبل أن يتمكنوا في الوادي انقضّت عليهم كتائب المقاتلين من هوازن ففر من فر من المسلمين وثبت النبي صلى الله عليه وآله وسلم وثلة من أصحابه، وكانت المعركة كما أخبرنا الله بقوله تعالى: {لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ * ثُمَّ أَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، وقد كانت غنائم المؤمنين عظيمة وكبيرة، فيها سبي ومال وكان سبب ذلك أنهم أخرجوا نساءهم وأموالهم معهم حتى لا يجبنوا في القتال، وقد اختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يترك الغنائم بلا قسمة رجاء أن يسلم أصحابها أو يساومهم بها على عقد حسن جوار، وبقيت الغنائم مجموعة في الجعرانة إلى حين فرغ النبي صلى الله عليه وآله وسلم من غزوة الطائف، وقد نصر الله تبارك وتعالى في هذه الغزوة محمداً صلى الله عليه وآله وسلم على قبيلة هوازن فقسم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد ذلك الغنائم والنساء وبعد قسمة النبي الغنائم جاء وفد هوازن مسلماً يطلب المن، وجاء في قصة استشارته صلى الله عليه وآله وسلم أصحابه بشأن هوازن ما يؤكد حق الشورى في أمور كهذه، فقد ذكر ابن هشام في السيرة أن وفد هوازن أتى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد أسلم فقالوا يا رسول الله إنا أصل وعشيرة وقد أصابنا من البلاء ما لا يخفى عليك فامنن علينا مَنَّ الله عليك. قال فقام رجل من هوازن فقال: يا رسول الله إنما من في الحضائر عماتك وخالاتك وحواضنك التي كن يكفلنك لو أنا ملحنا للحارث بن أبي شمر أو للنعمان بن المنذر ثم نزل بنا مثل الذي نزلت به رجونا عطفه وعائدته علينا وأنت خير المكفولين. قال ابن إسحاق: فحدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبدالله بن عمرو قال: فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أبناؤكم ونساؤكم أحب إليكم أم أموالكم؟» فقالوا: خيرتنا بين أموالنا وأحسابنا بل ترد إلينا نساءنا وأبناءنا فهو أحب إلينا. فقال لهم: «ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم، وإذا ما صليت الظهر بالناس فقوموا فقولوا إنا نستشفع برسول الله إلى المسلمين وبالمسلمين إلى رسول الله في أبنائنا ونسائنا فسأعطيكم عند ذلك وأسأل لكم». فلما صلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم بالناس الظهر قاموا فتكلموا بالذي أمرهم به فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «أما ما كان لي ولبني عبدالمطلب فهو لكم»، فقال المهاجرون: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقالت الأنصار: وما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال الأقرع بن حابس: أما أنا وبني تميم فلا، وقال عيين بن حصن: أما أنا وبني فزارة فلا، وقال عباس بن مرداس: أما أنا وبنو سليم فلا، فقال بنو سليم: بلى ما كان لنا فهو لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: يقول عباس بن مرداس لبني سليم: وهنتموني، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «أما من تمسك بحقه في هذا السبي فله بكل إنسان ست فرائض من أول سبي أصيبه فردوا إلى الناس أبناءهم ونساءهم». وذكر ابن كثير الشامي: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: إن هؤلاء قد جاءوا مسلمين وإنا قد خيرناهم بين الذراري والأموال فلم يعدلوا بالأحساب شيئاً، فمن كان عنده شيء فطابت نفسه أن يرده فسبيل ذلك، ومن لا فليعطنا وليكن قرضاً علينا حتى نصيب شيئاً فنعطيه مكانه. قالوا: يا نبي الله قد رضينا وسلمنا. قال: إني لا أدري لعل فيكم من لا يرضى فمروا عرفاءكم يرفعوا ذلك إلينا. فرفع إليه العرفاء أن رضوا وسلموا.
ويستفاد من هذه القصة أن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أدار المعركة بحنكة واقتدار ويتلخص منها ما يلي:
1- أن ولي الأمر (السلطان أو الملك أو الرئيس) عليه أن يبعث العيون والمخابرات بحسب تسمية اليوم في جيش عدوه.
2- أن من حق ولي الأمر وقائد الأمة أن يستعير سلاحاً عند الحاجة يستعين به في المعركة حتى وإن كان من مشرك أو كافر كما استعار النبي من صفوان بن أمية.
3- يستفاد أيضاً من هذه القصة أن العارية يدخلها الضمان فيجب ردها بعينها.
4- أن المسلمين قد غنموا غنائم كبيرة وكثيرة وكأن الله عوضهم عن فتح مكة فلم يغنم المسلمون منها ذهباً ولا فضة ولا متاعاً ولا سبياً.
5- أن الاغترار بالكثرة وعدم الاعتماد على الله سبحانه وتعالى يكون سبباً في الهزيمة وإن كانت العدة والعدد مطلوبة مع الإيمان والعزيمة.
6- أن النصر إنما هو من عند الله فمن ينصره الله فلا غالب له ومن يخذله فلا ناصر له غيره، ومع ذلك لا بد من الأخذ بالأسباب وإعداد العدة.
7- إعطاء الغانمين حظهم من الغنيمة وجواز إعطاء المؤلفة قلوبهم من خمس الخمس، فإعطاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم لصفوان بن أمية عطاءً كبيراً يدل على استحباب استمالة أهل الوجاهة من أهل الكفر الذين ينصلح بهم أمر الإسلام؛ لأن القلوب جبلت على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها.
8- الإرشاد إلى مشاورة أصحاب الحقوق إذا ما أراد الإمام أن يتصرف بشيء من الغنيمة بعد قسمتها ففي هذه القصة نجد أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم استشار فاختلف بعض رؤساء القبائل مع مقاتليها، وهم أصحاب الحقوق فمنهم من بذلها للرسول صلى الله عليه وآله وسلم ومنهم من لم يتنازل عن حقه، لأنه لما اختلط الأمر والتبس طلب من الأمراء أن يأخذوا رأي أصحاب الحقوق فالمستشار هنا هم أصحاب الحقوق وعرفاءهم، ويستفاد من ذلك أنه ليس لولي الأمر مصادرة حقوق المقاتلين إلا إذا طابت نفس الغانمين بذلك.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله: وفيها أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «من لم تطب نفسه فله بكل فريضة ست فرائض من أول ما يفيء الله علينا»، وفي هذا دليل على جواز بيع الرقيق بالحيوان بعضه ببعض نسيئة متفاضلاً.
ومن خلال هذه النماذج الذي أتينا عليها في الشورى في الحرب من عصر النبوة يتبين لنا أن الشورى بأي صورة اتخذت وعلى أي طريقة طبقت فإن الشريعة الإسلامية تقره وترتضيه إذا كان محققاً لمقاصدها التي جاءت بها الشريعة وهو مثبتٌ لحق الأمة في المشاركة في صنع القرار بحسب ما تقتضيه مصالح الأمة ويقوم به العدل فيها بشرط ألا يعارض نصاً في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.